فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإنما يكون هذا معجزة إذا رآه الناس وعرفوه.
وقال محمد بن إسحاق: أوتي داود من حسن الصوت ما يكون له في الجبال دويّ حسن، وما تصغي لحسنه {الطير} وتصوّت معه، فهذا تسبيح الجبال والطير.
وقيل: سخرها اللّه عز وجل لتسير معه فذلك تسبيحها؛ لأنها دالة على تنزيه اللّه عن شبه المخلوقين.
وقد مضى القول في هذا في سبأ وفي سبحان عند قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] وأن ذلك تسبيح مقال على الصحيح من الأقوال.
واللّه أعلم.
{بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ} الإشراق أيضًا ابيضاض الشمس بعد طلوعها.
يقال: شَرَقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت.
فكان داود يسبّح إثر صلاته عند طلوع الشمس وعند غروبها.
الثانية روي عن ابن عباس أنه قال: كنت أمُّر بهذه الآية {بالعشي والإشراق} ولا أدري ما هي، حتى حدّثتني أم هانىء أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دخل عليها، فدعا بوضوء فتوضأ، ثم صلى صلاة الضحى، وقال: «يا أم هانىء هذه صلاة الإشراق» وقال عكرمة قال ابن عباس: كان في نفسي شيء من صلاة الضحى حتى وجدتها في القرآن {يُسَبِّحْنَ بالعشي والإشراق}.
قال عكرمة: وكان ابن عباس لا يصلّي صلاة الضحى ثم صلاها بعد.
وروي أن كعب الأحبار قال لابن عباس: إني أجد في كتب اللّه صلاة بعد طلوع الشمس هي صلاة الأوّابين.
فقال ابن عباس: وأنا أوجدك في القرآن؛ ذلك في قصة داود «يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ والإشْرَاقِ».
الثالثة صلاة الضحى نافلة مستحبة، وهي في الغداة بإزاء العصر في العشيّ، لا ينبغي أن تصلي حتى تبيض الشمس طالعة؛ ويرتفع كدرها؛ وتشرق بنورها؛ كما لا تصلي العصر إذا اصفرت الشمس.
وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرْقَم أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الأوّابين حين تَرْمَض الفصالُ» الفصال والفصلان جمع فَصيل، وهو الذي يفطم من الرضاعة من الإبل.
والرمضاء شدّة الحر في الأرض.
وخصّ الفصال هنا بالذكر؛ لأنها هي التي تَرْمَض قبل انتهاء شدّة الحر التي تَرْمَض بها أمهاتها لقلة جَلَدها، وذلك يكون في الضحى أو بعده بقليل، وهو الوقت المتوسط بين طلوع الشمس وزوالها؛ قاله القاضي أبو بكر بن العربي.
ومن الناس من يبادر بها قبل ذلك استعجالا، لأجل شغله فيخسر عمله؛ لأنه يصليها في الوقت المنهي عنه ويأتي بعمل هو عليه لا له.
الرابعة روى الترمذي من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلّى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى اللّه له قصرًا من ذهب في الجنة» قال حديث غريب.
وفي صحيح مسلم عن أبي ذرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يصبح على كل سُلاَمَى من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة ويجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى» وفي الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حافظ على شَفْعة الضحى غُفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زَبد البحر» وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: «أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت صوم ثلاثة أيام من كل شهر وصلاة الضحى ونوم على وتر» لفظ البخاري. وقال مسلم «وركعتي الضحى» وخرّجه من حديث أبي الدرداء كما خرّجه البخاري من حديث أبي هريرة. وهذا كله يدل على أن أقل الضحى ركعتان وأكثره ثنتا عشرة. واللّه أعلم.
وأصل السُّلامي بضم السين عظام الأصابع والأكف والأرجل، ثم استعمل في سائر عظام الجسد ومفاصله.
وروي من حديث عائشة رضي اللّه عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلثمائة مفصل فمن كبر اللّه وحمد اللّه وهلل اللّه وسبح اللّه واستغفر اللّه وعزل حجرًا عن طريق الناس أو شوكة أو عظمًا عن طريق الناس وأمر بمعروف أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلثمائة سلامى فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار» قال أبو توبة: وربما قال «يمسي» كذا خرجه مسلم.
وقوله: «ويجزي عن ذلك ركعتان» أي يكفي من هذه الصدقات عن هذه الأعضاء ركعتان.
وذلك أن الصلاة عمل بجميع أعضاء الجسد؛ فإذا صلى فقد قام كل عضو بوظيفته التي عليه في الأصل.
واللّه أعلم.
قوله تعالى: {والطير مَحْشُورَةً} معطوف على الجبال.
قال الفراء: ولو قرئ {وَالطَّيْرُ مَحْشُورَةٌ} لجاز؛ لأنه لم يظهر الفعل.
قال ابن عباس: كان داود عليه السلام إذا سبح جاوبته الجبال واجتمعت إليه الطير فسبحت معه، فاجتماعها إليه حشرها.
فالمعنى وسخرنا الطير مجموعة إليه لتسبح اللّه معه.
وقيل: أي وسخرنا الريح لتحشر الطيور إليه لتسبح معه، أو أمرنا الملائكة تحشر الطيور.
{كُلٌّ لَّهُ} أي لداود {أَوَّابٌ} أي مطيع؛ أي تأتيه وتسبح معه.
وقيل: الهاء للّه عز وجل.
قوله تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} أي قويناه حتى ثبت.
قيل: بالهيبة وإلقاء الرعب منه في القلوب.
وقيل: بكثرة الجنود.
وقيل: بالتأييد والنصر.
وهذا اختيار ابن العربي.
فلا ينفع الجيش الكثير التفافه على غير منصور وغير مُعانٍ.
وقال ابن عباس رضي اللّه عنه: كان داود أشدّ ملوك الأرض سلطانًا.
كان يحرس محرابه كل ليلة نيف وثلاثون ألف رجل فإذا أصبح قيل: ارجعوا فقد رضي عنكم نبيّ اللّه.
والمُلْك عبارة عن كثرة المِلْك، فقد يكون للرجل مِلك ولكن لا يكون ملِكًا حتى يكثر ذلك؛ فلو ملك الرجل دارًا وامرأة لم يكن ملكًا حتى يكون له خادم يكفيه مؤونة التصرف في المنافع التي يفتقر إليها لضرورته الآدمية.
وقد مضى هذا المعنى في براءة وحقيقة الملك في النمل مستوفى.
قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الحكمة وَفَصْلَ الخطاب} فيه مسألتان:
الأولى قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الحكمة} أي النبوّة؛ قاله السدي.
مجاهد: العدل.
أبو العالية: العلم بكتاب اللّه تعالى.
قتادة: السنة.
شريح: العلم والفقه.
{وَفَصْلَ الخطاب} قال أبو عبد الرحمن السُّلَمي وقتادة: يعني الفصل في القضاء.
وهو قول ابن مسعود والحسن والكلبي ومقاتل.
وقال ابن عباس: بيان الكلام.
عليّ بن أبي طالب: هو البينة على المدّعي واليمين على من أنكر.
وقاله شُريح والشَّعْبيّ وقتادة أيضًا.
وقال أبو موسى الأشعري والشّعبي أيضًا: هو قوله أما بعد، وهو أول من تكلم بها.
وقيل: {فَصْلُ الْخِطَاب} البيان الفاصل بين الحق والباطل.
وقيل: هو الإيجاز بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل.
والمعنى في هذه الأقوال متقارب.
وقول عليّ رضي اللّه عنه يجمعه؛ لأن مدار الحكم عليه في القضاء ما عدا قول أبي موسى.
الثانية قال القاضي أبو بكر بن العربي: فأما علم القضاء فَلَعَمْرُ إلهك إنه لنوع من العلم مجرد، وفصل منه مؤكَّد، غير معرفة الأحكام والبصر بالحلال والحرام؛ ففي الحديث: «أقضاكم عليّ وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل» وقد يكون الرجل بصيرًا بأحكام الأفعال، عارفًا بالحلال والحرام، ولا يقوم بفصل القضاء.
يروى أن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال: لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن حفر قوم زُبْية للأسد، فوقع فيها الأسد، وازدحم الناس على الزبية فوقع فيها رجل وتعلق بآخر، وتعلق الآخر بآخر، حتى صاروا أربعة، فجرحهم الأسد فيها فهلكوا، وحمل القوم السلاح وكاد يكون بينهم قتال؛ قال فأتيتهم فقلت: أتقتلون مائتي رجل من أجل أربعة أناس! تعالوا أقض بينكم بقضاء؛ فإن رضيتموه فهو قضاء بينكم، وإن أبيتم رفعتم ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أحق بالقضاء فجعل للأوّل ربع الدية، وجعل للثاني ثلث الدية، وجعل للثالث نصف الدية، وجعل للرابع الدية، وجعل الدياتِ على من حفر الزُّبْيَة على قبائل الأربعة؛ فسخط بعضهم ورضي بعضهم، ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصوا عليه القصة؛ فقال: «أنا أقضي بينكم» فقال قائل: إن عليًا قد قضى بيننا فأخبروه بما قضى عليّ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القضاء كما قضى عليّ» في رواية: فأمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء عليّ.
وكذلك يروى في المعرفة بالقضاء أن أبا حنيفة جاء إليه رجل فقال: إن ابن أبي ليلى وكان قاضيًا بالكوفة جلد امرأة مجنونة قالت لرجل يا ابن الزانيين حدّين في المسجد وهي قائمة.
فقال: أخطأ من ستة أوجه.
قال ابن العربي: وهذا الذي قاله أبو حنيفة بالبديهة لا يدركه أحد بالروية إلا العلماء.
فأما قضية عليّ فلا يدركها الشادي، ولا يلحقها بعد التمرن في الأحكام إلا العاكف المتمادي.
وتحقيقها أن هؤلاء الأربعة المقتولين خطأ بالتدافع على الحفرة من الحاضرين عليها، فلهم الديات على من حضر على وجه الخطأ، بَيْد أن الأوّل مقتول بالمدافعة قاتل ثلاثةٍ بالمجاذبة، فله الديةُ بما قُتِل، وعليه ثلاثة أرباع الدية بالثلاثة الذين قتلهم.
وأما الثاني فله ثلث الدية وعليه الثلثان بالاثنين اللذين قتلهما بالمجاذبة.
وأما الثالث فله نصف الدية وعليه النصف؛ لأنه قتل واحدًا بالمجاذبة فوقعت المحاصة وغرمت العواقل هذا التقدير بعد القصاص الجاري فيه.
وهذا من بديع الاستنباط.
وأما أبو حنيفة فإنه نظر إلى المعاني المتعلقة فرآها ستة: الأوّل أن المجنون لا حدّ عليه؛ لأن الجنون يسقط التكليف.
وهذا إذا كان القذف في حالة الجنون، وأما إذا كان يجنّ مرة ويُفيق أخرى فإنه يحدّ بالقذف في حالة إفاقته.
والثاني قولها يا ابن الزانيين فجلدها حدّين لكل أب حدّ، فإنما خطأه أبو حنيفة على مذهبه في أن حدّ القذف يتداخل، لأنه عنده حق الله تعالى كحدّ الخمر والزنى.
وأما الشافعي ومالك فإنهما يريان أن الحدّ بالقذف حق للآدمي، فيتعدّد بتعدّد المقذوف.
الثالث أنه جَلَد بغير مطالبة المقذوف، ولا تجوز إقامة حدّ القذف بإجماع من الأمة إلا بعد المطالبة بإقامته ممن يقول إنه حق لله تعالى، ومن يقول إنه حق الآدمي.
وبهذا المعنى وقع الاحتجاج لمن يرى أنه حقّ للآدمي؛ إذ لو كان حقًا لله لما توقف على المطالبة كحدّ الزنى.
الرابع أنه والى بين الحدّين، ومن وجب عليه حدّان لم يُوالَ بينهما، بل يحدّ لأحدهما ثم يترك حتى يندمل الضرب، أو يستبل المضروب ثم يقام عليه الحد الآخر.
الخامس أنه حدّها قائمة، ولا تحدّ المرأة إلا جالسة مستورة؛ قال بعض الناس: في زنبيل.
السادس أنه أقام الحد في المسجد ولا تقام الحدود فيه إجماعًا.
وفي القضاء في المسجد والتعزير فيه خلاف.
قال القاضي: فهذا هو فصل الخطاب وعلم القضاء، الذي وقعت الإشارة إليه على أحد التأويلات في الحديث المرويّ «أقضاكم عليّ» وأما من قال: إنه الإيجاز فذلك للعرب دون العجم، ولمحمد صلى الله عليه وسلم دون العرب؛ وقد بين هذا بقوله: «وأوتيت جوامع الكلم» وأما من قال: إنه قوله أما بعد؛ فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: «أما بعد» ويروى أن أوّل من قالها في الجاهلية سحبان بن وائل، وهو أوّل من آمن بالبعث، وأوّل من توكأ على عصا، وعمِّر مائة وثمانين سنة ولو صح أن داود عليه السلام قالها، لم يكن ذلك منه بالعربية على هذا النظم، وإنما كان بلسانه.
والله أعلم. اهـ.

.قال الألوسي:

{اصبر على مَا يَقُولُونَ} على ما يتجدد من أمثال هذه المقالات الباطلة المؤذية {واذكر عَبْدَنَا داود} أي اذكر لهم قصته عليه السلام تعظيمًا للمعصية في أعينهم وتنبيهًا لهم على كمال قبح ما اجترؤا عليه فإنه عليه السلام مع علو شأنه وإيتائه النبوة والملك لما ألم بما هو خلاف الأولى ناله ما ألمه وأدام غمه وندمه فما الظن بهؤلاء الكفرة الأذلين الذين لم يزالوا على أكبر الكبائر مصرين أو اذكر قصته عليه السلام في نفسك وتحفظ من ارتكاب ما يوجب العتاب، وقيل إنه تعالى أمره عليه الصلاة والسلام أن يذكر قصص الأنبياء عليهم السلام الذين عرض لهم ما عرض فصبروا حتى فرج الله تعالى عنهم وأحسن عاقبتهم، ترغيبًا له في الصبر وتسهيلًا لأمره عليه وإيذانًا ببلوغ ما يريده بذلك، وهو كما ترى، وقيل أمره بالصبر وذكر قصص الأنبياء ليكون ذلك برهانًا على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم، والذكر على هذا والأول لساني وعلى ما بينهما قلبي وهو مراد من فسر {اذكر} على ذلك بتذكر {ذَا الايد} أي ذا القوة يقال فلان أيد وذو أيد وذو آد وأياد بمعنى وأياد كل شيء ما يتقوى به.
{إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي رجاع إلى الله تعالى وطاعته عز وجل.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا: الأواب المسبح، وعن عمرو بن شرحبيل أنه المسبح بلغة الحبشة، وأخرج الديلمي عن مجاهد قال: سألت ابن عمر عن الأواب فقال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقال: هو الرجل يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله تعالى، وهذا إن صح لا يعدل عنه، والجملة تعليل لكونه عليه السلام ذا الأيد وتدل بأي معنى كان الأواب فيها على أن المراد بالأيد القوة الدينية وهي القوة على العبادة كما قال مجاهد وقتادة والحسن وغيرهم إذ لا يحسن التعليل لو حملت القوة على القوة في الجسم، نعم قد كان عليه السلام قوي الجسم أيضًا إلا أن ذلك غير مراد هنا؛ وفي التعبير عنه بعبدنا ووصفه بذي الأيد والتعليل بما ذكر دلالة على كثرة عبادته ووفور طاعته.